Pages

14.7.12

العزف على وتر الروح




أجدنى أحياناً متلبسة بالعزف على الهواء حين أسمع لحناً يأسر أذني و يجبرني على الإنصات..وقتها أدرك أن نوبة حنين للعزف على آلة "الأورج" خاصتى قد باغتتني و أنني لن أستطيع أن ألبى نداء روحي و أعزف.

 أحن للعزف الذي انقطعت عن ممارسته تماماً منذ وصولي لمرحلة الثانوية العامة, رغم أني كنت قد بدأت بالفعل التدريب على آلة الجيتار و الأوكورديون و الكمان, فالعزف على آلات موسيقية مختلفة كان شغفي. لكنى انشغلت عن ممارسة هوايتي بالدراسة ثم العمل.

والدتي هي أول من أكتشف موهبتي حين عزفت مقطع من أغنية "أنت عمري" لكوكب الشرق أم كلثوم و لحن العملاق محمد عبد الوهاب على آلة "الأورج" البيضاء التي أهداها لها ولدى عندما عاد من رحلة الحج..ففوجئت بي أعزف ذات المقطع مع بعض الأخطاء البسيطة, كان عمري حينها خمس سنوات تقريباً. يبدو أنها أدركت أنى أمتلك أذن موسيقية فاتفقت مع أبى على أن أتعلم فن العزف على يد أستاذ متخصص. ليس هذا وفقط بل كنت أذهب لقصر الثقافة و لمركز الشباب لنفس السبب. حتى أنى قد التحقت بالمدرسة و أنا أجيد العزف على آلة "الأورج" إجادة تامة.

بفستاني الستان الأزرق ذو الحزام الأبيض صعدت يوماً على خشبة مسرح قصر ثقافة مدينة أسوان -كان حفل عيد الطفولة أو ربما عيد الأم فمشاركتي في حفلات المدرسة كان أمراً تلقائياً- بعدما قدمني مذيع الحفل قائلاً "ذات الأصابع الذهبية", حانت لحظة مواجهة الجمهور.. لأعزف لهم مقطوعات موسيقية في فقرة فردية. كنت بالكاد أصل "للأورج" لأنني أقصر من الأرجل المصنوعة من مادة الأستانلس الخاصة بالآلة..فاستدركت إدارة المدرسة هذا الأمر فيما بعد و صاروا يضعونه على منضده خشبية قصيرة لأتمكن من العزف دون أن أضطر للوقوف على أطراف أصابعي كالباليرينا.  أعتدت كذلك أن أشترك مع زملائي في العزف لكورال المدرسة, وكثيراً ما شعرت بالتوتر لأن على أن أبدل ملابسي في دقائق معدودة فأخلع الفستان و أرتدي الزى المخصص للفرقة الموسيقية, أذكر ذلك الطاقم المكون من بلوزة بيضاء و تنورة بلون النبيذ.

أحن لتلك اللحظات التي كنت أمضيها لتدرب على المقطوعات الموسيقية و كيف أنني كنت أفضل أحياناً أن أستخدم "الأورج" الأحمر الخاص بأخي لأنه كان يتميز عن خاصتى بإمكانية التسجيل..كنت أضغط على زر التسجيل لأشغله بينما تكون أمي بعيدة من باب العند لأنى لا أحب أن أمارس ما أحبه تحت ضغط. وكنت أقنعها بأنني لا أجد السلك الكهربائي الذي يخص آلتي و أن البطاريات لا تعمل..كنت أظن أنى أذكى منها و اكتشفت في ما بعد- حين قررت أن أعترف لها منذ عدة سنوات- أن أمي تعرف حقيقة أفعالي. لم تكن تلك المرة الأولى التي أكتشف فيها أن كل محاولاتي و ألاعيبي –الطفولية- كانت مكشوفة و أنى الوحيدة التي تمارس فعل "الهبل".

أحن لآلة "الأكورديون" التي أشتراها لي أبى حين نجحت في الصف الخامس الأبتدائى..تلك الآلة التي كانت أكبر من جسدي الصغير و رغم ذلك كنت أحملها كالأم التي تحمل وليدها.

كثيراً ما أقلب ألبوم صوري..و أتذكر تلك الأيام البريئة الخالية من أية مسئولية سوى أن أعزف مقطوعتي دون أن أرتبك..دون أن أخطئ, فقط كان على الالتزام برتم اللحن. وفى تلك الصور كان يظهر معي مدرس الموسيقى. أذكر أستاذ عادل, أستاذ على, أستاذ هشام, أستاذة أمل رحمة الله عليها و أستاذة مارى..أذكر كل من علموني كيف أعبر عن ما بداخلي عن طريق الموسيقى..كيف أمليء الدنيا ألحان و نغمات تسمو بالروح و تدعو للتأمل و الفرح.

ربما تلك هي المرة الأولى التي سأشكر فيها أبى و أمي لأنهما حين اكتشفا موهبتي لم يدخروا أي شئ..أمي التي أهلكتها بالذهاب معي للتدريب و أبى الذي بذل مالاً كثيراً للمدرس – الخصوصى- الذي ظل يأتي إلى البيت لمرتين في الأسبوع. شكراً لأنكما كنتما السبب لأكتشف ذاتي.

أحن للموسيقى التي لم يبقى لي منها سوى الاستماع إليها.


مقالى بملف "الحنين ..ذاكرة الوجود" مجلة الثقافة الجديدة عدد يوليو 2012