Pages

30.1.14

عطر شاه .. متن وهامش يتعانقان في جديلة واحدة

تقتحم عوالم سردية شائكة

عطر شاه .. متن وهامش يتعانقان في جديلة واحدة

كتب: مدحت عبد الدايم..جريدة الشرق القطرية

سبعة أيام سأقضيها في فندق فاخر، ينقسم اليوم هنا بين ندوات ولقاءات مع أصدقائي الكتاب المقيمين هنا، أو أولئك الذين جاءوا مثلي لاستلام جوائزهم، لكن قمر سعادتي لم يكتمل، أمي ليست معي، لن تشاركني لحظة النجاح التي حلمت بها، على سلم الطائرة تذكرت نفسي منذ أربعة عشر عاما، حين وصلت وعائلتي للسعودية، ألقيت نظرة الوداع الأخيرة ثم أغمضت عيني، أهاب الصعود، غفوت وأنا أعانق حزني المكتوم، هز أبي ذراعي بخفة وقال: "أنظري لقد وصلنا، اتفرجي على البلد من فوق" بدا لي المشهد خاليا من كل شيء سوى اللون الأصفر.

إنها "عطر شاه" وفقا لرواية "نسرين البخشونجي" الصادرة عن "مجموعة النيل العربية" والتي تنتظم في جديلتين، أو متن وهامش، يشكلان معا مجرى لنهر واحد، من خلال قصة "عطر" الكاتبة الصحفية والروائية التي تحتفي مع زملائها بفوزها بإحدى الجوائز الدولية الأدبية قبل توجهها لاستلامها، وسط فرح البعض وغيرة الآخرين، ومن خلال قصة "شذى" التي تتعرف على "كريم" في دورة لإدارة الأعمال، وبعد توغلها في بحر الولع به، تطلب منه مقابلة والدها، فيختفي لبضعة أيام، وفي لحظة مكاشفة يقول لها بتردد: أنا بهائي، ليملأ الذهول فضاء المكان، ولتدلف الرواية إلى أجواء جديدة، أقل ما يمكن أن توصف به، أنها تقتلع شجيرات الأمل والحب دون رحمة، فالإسلام لا يسمح بهذه الزيجة وإن أجازها القانون، كما أن ديانة "كريم" وفقا لبطاقة الهوية "مسلم" وهنا يقفز السؤال من تلقاء ذاته: كيف يمكن لإنسان أن يعيش عمره منتميا لدين على الورق وآخر داخل أعمق نقطة في الروح؟

تعزف البخشونجي باقتدار على وتر حاد، من خلال إثارة العديد من القضايا الاجتماعية الشائكة فـ "عبير" زميلتها الجامعية التي تزوجت عرفيا من شاب مسيحي لأنها لا تحتمل الحياة بدونه، تم القبض عليهما في الشقة التي يلتقيان بها، ليجبر الشاب على إشهار إسلامه حتى لا يدخلا السجن بقضية آداب، أما "سامح" الملحد فيريد أن يثبت للجميع أنه تخلى بسهولة عن كل عاداته وأفكاره القديمة، فيما تكشف عن عورات التطرف والعصبية الطائفية المقيتة عبر مذابح البوسنة والهرسك المصورة، ومذابح لبنان، وفلسطين، وانفجار كنيسة القديسين بالإسكندرية، بينما ترى في  صورة "محمد بوعزيزي" مفجر ثورة الياسمين أيقونة لغضب الشباب العربي، وأن الحشود في مصر رفعت سقف مطالبها الثورية عندما أصاب الغرور السلطة الحاكمة، والأمر كذلك ترصد الرواية كيف صار موت الأبرياء في مصر، على الطرق، وقضبان السكك الحديدية، وفي المستشفيات من الإهمال، واصطياد الشباب كما الطيور في المظاهرات واقعا يوميا مريرا، فيما تنتقد البخشونجي في روايتها من يبحثون عن "السبوبة" عبر سلسلة لا منتهية من الكتب التي يتكون عنوانها من كلمة "ثورة" تليها أي كلمة أخرى، ذلك والثورة لم تنته بعد.

وفي جديلتها تلتحق "عطر" بمدارس المملكة لترصد أجواء التمييز بين السنة والشيعة عند الفتيات الصغيرات، والترويج لأفكار تعوزها المراجعة، وتصطدم ببعض أفكار معلمتها التي تتباهى بكثرة الإنجاب، حتى أن والدها المتأنق المتحدث بالإنجليزية، وبفعل تأثره بأجواء الغربة استبدل البذلة ذات الأكمام القصيرة في الصيف، بالجلباب القصير والسروال وبعد عودته إلى القاهرة اعتقل بأحد المساجد بعد أن أطلق لحيته، وتكتشف "شذى" بعد زواجها ممن لا تحبه خيانته لها بعد إنجاب طفلة بريئة، فتفكر جديا في التواصل مع كريم بعد أن أكدت له أن مشاعرها لا تزال بكرا نحوه، وبعد تحققه عمليا، وفي جديلتها وبعد أن تتسلم "عطر" جائزتها يتهافت معدو البرامج لتسجل معهم، تحكي لهم عن أمها، التي منحتها الحياة، وعلمتها أن تصمد كالوتد، وكيف أنها نامت على الأرض، كي تمنعها من الذهاب إلى ميدان التحرير أثناء الثورة خوفا من أن تتركها وحيدة، فماتت قبل تنحي المخلوع بليلة.


تحتفي مؤلفة الرواية بالعطر بشكل مدهش حتى لكأنه يفوح من بين السطور وعناوين الفصول: "بنفسج – شغف الياسمين – الورد رائحة الفرح والحزن- اسمي عطر- فرار الياسمين- ريحان- باتشولي النجاح" ولا يخفى أن اسم مؤلفة الرواية "نسرين" هو لنوع من الزهور ذات الرائحة النفاذة، وتقتحم الرواية عالم المطبخ لتكشف عن تفاصيل دقيقة في شخصية بطلتها التي تمارس عبر فن الطبخ إبداعا موازيا لفعل الكتابة، فيما ترصع جنبات الرواية بكثير من التساؤلات والحكم التي تضيف للعمل أبعادا فكرية وفلسفية عميقة: "لو نملك خيار العودة للماضي وتغييره، هل سنعدل أخطاءنا أم سنقترف بغبائنا أخطاء أكثر فداحة؟ - لو قرأنا أديان الآخرين لعرفنا ديننا بشكل أفضل كثيرا مما نحن عليه، لأننا كنا سنرغب في معرفة أكثر من المطروح علينا من علماء الدين - الاقتراب من المبدع إما يجعلك شديد الارتباط به أو تكرهه وتلعن كل لحظة أمضيتها مستمتعا بما كتب -نبكي ضياع الأندلس وننسى فلسطين- مشاهدة الأحداث على الشاشة ليست كالاشتراك فيها- الثورة أمل كل مظلوم". 

No comments:

Post a Comment

أرحب بجميع الآراء و الملاحظات على مدونتي ^_^

قال تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

نسرين البخشونجى