Pages

23.9.16

عيدية نسرين

(1)
في التفاصيل يكمن الشيطان.. هكذا يقول خبراء الاستراتيجية وضيوف الفضائيات المتأنقين بالكذب والبلاغة البلاستيك، لكن في «تفاصيل» نسرين البخشونجى يكمن الشجن الهفهاف، وهمسات الأنثى لنفسها ولأصحاب المشاعر في كل مكان، خاصة لو كانت الأنثى المفترضة في التفاصيل جنوبية سمراء لا تجيد التزلج على الجليد، ولا تمتلك قوام الباليرينا، خاصة لو كانت تلك الأنثى الجنوبية لا تزال موزعة بين حلم بنعومة النيل وواقع بصلادة الجبل، تقضي حياتها مثل نسخة عبثية من سيزيف تحمل على رأسها وفي قلبها أثقالا من الحجارة الصماء التي يحرسها آلهة التقاليد المتهالكة، خاصة لو كانت تلك الأنثى المطلقة في كل (مكان وزمان) تعاني في نهارها وليلها من خشونة الرجال والزمن.
(2)

«تفاصيل» نسرين، التي صدرت حديثًا عن دار نشر «روافد» المهتمة بالشعر والأدب، ليست قصصا قصيرة، كما يخدعنا الغلاف، لكنها نصوص مفتوحة تلامس سماء الشعر وأعماق الخاطرة التأملية، ودروب التراجيديات المقيمة، تأخذ شكل «البوست» أو التويتة أحيانا، وتأخذ شكل البطاقة التعبيرية أو السلوجان أحيانا أخرى، لكن نصوص نسرين المضمخة بعطر الوحدة، والغربة والحنين، والانتظار، ترسم بسلاسة مدهشة خريطة رومانسية ناعمة لمواجع المرأة.. وقد توقفت حائراً قبل كتابة كلمة المرأة، وترددت بينها وبين كلمة الفتاة أو البنات، لأن مشاعر نسرين تتراوح في المنطقة الحرجة بين عالم البنات العاطفي الفضفاض المليء بفخاخ الأحلام الوردية وصدمات الواقع المكتومة، وبين مشاعر الأمومة الأولى، حيث تسيل مشاعر البنات الجريحة، دمعاً يُنبت زهور الحياة في كائنات أخرى تحمل أملاً جديدا، ورغبة دائرية تتجاوز حيلة تعويض حياة شاخت في حياة غضة تتشكل.
(3)
لقد خطفتني نسرين من أول نظرة، عندما وقعت عيني على الإهداء الأول لابنتها مريم والذي قالت فيه بفيض الحب والذوبان:
«أطل على روحي من شباك عيونها... مريم».
ثم أجهزت على تربصي النقدي بإهدائها الثاني البديع إلى الكتابة، والذي يعبر عن غرامها السيزيفي بالتماهي والذوبان، وقالت فيه:
«إلى وطني الذي لا يعترف بالغربة، ولم أعرف فيه الوحدة.. أموت فيه ألف مرة، وأحيا ألف ألف مرة، وبينهما (محياي ومماتي) يكون وهج الحرف، وبرزخ الكلمة.
إليها... الكتابة

(4)
ليست مصادفة أن تؤخر نسرين التعريف في المرتين، فالمرأة في بلادنا عادة ما تؤخر الإعلان عن رغباتها، وتخبئ مقاصدها خجلاً أو خوفاً، وتكتم عواطفنا وتؤجل أحلامها، ربما حتى تتحول حياتها إلى قصة تحكيها سراً بصيغة: لو، وكان يا ما كان.
(5)
لا أرغب في قراءة نقدية لتفاصيل نسرين، بل في تقديم عيدية فرح ومحبة، لواحدة من بناتي المبدعات، تعرفت عليها محررة ثقافية نابهة في «المصري اليوم»، وسعدت بها روائية لها حكاية خاصة في «عطر شاه» و«غرف حنين»، وقاصة بطعم خاص جداً في «بعد إجباري»، وأكتفي بأن أنتقي لكم بعضا من تفاصيلها النابضة بالحياة، من دون أن تنزلق إلى الشكوى الممجوجة، أو تلوث الحزن والألم والانكسار بطعم المذلة والفاجعة:
(لا مفر)
«أشعر بالقهر، أريد أن أبكي، سيقولون إني لست برجل».
كادت تقول له ابك فالضحك كالبكاء، لكنها تذكرت أنه من العيب أن تضحك لأنها أنثى.

(كاتبة)
• صندوق بريدها ممتلئ برسائل الإعجاب، ليس من بينهم حرف يمتدح قلمها.
• ظلت حبيسة نص لم تكتبه، خشية.. فصارت ناقصة حرفا وحرية.
(انفجار)
حين دخلت صوان العزاء الذي أقامته المدرسة حدادًا على أرواح التلميذات، أرادت أن تفجر السكون المغلف بالحزن، قالت لمن تجلس بجوارها: «ربنا ستر بنات ملتنا، وعرّى الأخريات».
(عشق)
ذابا حتى لم يتبقَ منهما سوى أثر عطر ووردة.
(ح. ب)
أغرقت تفاصيل خلافاتهما بماء وريحان، ثم نثرت حرفي الحاء والباء على طمي قلبها.
(قناع)
ظلت ترتدي قناع الصمت في حضرته، وفي غيابه يزلزل صوتها الجدران.
(نكران)
طلبن منها أن تحمل عنهن حقائب الخطايا والخيبات ليسترحن قليلا.
ففعلت..
ثم تركوها تصعد الجبل وحيدة مُكبلة.
(فعل فاضح)
خلعت غطاء الرأس فنعتها بناقصة الدين. تركته وخرجت، فضغط على زر تشغيل الحاسوب كي يشاهد أجساد تتحرك بغنج.
(عفواً)
نفذ رصيد حياته بينما يكتب رسالة نصية لبرنامج يحقق الأمنيات.
(ضحكتان)
حين تمكنت الصغيرة من إقناع أمها بأنها اصطادت السمكة الكبيرة وحدها ضحكت.
وضحكت الكبيرة حين تمكنت من إقناع صغيرتها أنها صدقتها.
أدمعت حين تذكرت التي لم تعد صغيرة سر ضحكة أمها.
(بلاد الله)
خافت أن تمر على بلاد الحنين فلا تخرج منها.
(شغف)
تقف في الشباك تنتظر ماء السماء بشغف طفولي.
(لحظة)
واقفة في شرفة الغربة تنتظر لحظة الفرار البعيدة.
(سكينة)
في عتمة صندوق قلبها تفتش. أحست بوجوده جوارها، ابتسمت. نوره الطاغي أضاء الظلام. فارتدت ثوب السكينة وغفت.
(ركلة)
ركلها بقوة في بطنها. لحظة سقوطها على الأرض تذكرت ركلته الأولى حين كان يسكن داخلها.
(عتمة)
تمنت لو تستطيع أن تصرخ، فيشق صوتها عتمة الصمت.
(حلاوة روح)
صارت مثل سمكة خرجت توا من الماء.. تبرق قشرتها في الشمس بينما ينتفض جسدها بقسوة.. روحها معلقة بين برزخ النور وظلام الخوف. وحدها تسمع صوت الصياد المبتهج على خلفية أنينها.
(أمنية)
لو أنها تتوقف عن رشق الحنين بالذكريات.
(6)
كل سنة وأنت مبدعة يا نسرين.. يا أم مريم، يا كل نسرين.. يا كل أم، وكل حبيبة، وكل زوجة، وكل جدة، وكل بنت، وكل إنسان، قضيتك طويلة ومعقدة يا نسرين، لكنها قضية الغد المأمول، فلا تنهزمي ولا تتوقفي.
 

*مقال الكاتب الصحفي جمال الجمل المنشور بموقع المصري اليوم

No comments:

Post a Comment

أرحب بجميع الآراء و الملاحظات على مدونتي ^_^

قال تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

نسرين البخشونجى