Pages

16.1.12

في صالة السينما..تجدوني- الثقافة الجديدة

الفيلم مثل الحلم, مثل الموسيقى. لا يوجد فن يعبر بسهولة إلى ضميرنا و يمر داخل مشاعرنا, و أعمق أعماق أرواحنا مثله. المخرج السويدي إنجمار بريجمان.

"يعنى إيه سينما يا بابا؟" سؤال طرحته و أخي على مسامع والدي حين كنا صغاراً. لم ينبع السؤال الطفولي منا وقتها دون مبرر, بل كانت تلك المرة الأولى التي نقرأ فيها يافطة كبيرة مكتوب عليها "سينما".
" السينما شاشة كبيرة نشاهد فيها الأفلام " أجاب والدي ثم أكمل.."يوم الخميس سنذهب لمشاهدة فيلم".

لم أكن أدرك وقتها أن أياماً قليلة تفصلني عن أكثر الأماكن سحراً بالنسبة لي. رغم أننا كنا كشأن كل العائلات في حقبة الثمانينيات نمتلك جهاز "الفيديو" و كان والدي – الذي أظننى قد ورثت عنه عشقة للسينما- يأخذنا كل أسبوع لنختار فيلماً نشاهده في عطلتنا الأسبوعية, إلا أن لتلك الشاشة سحراً أخر يتسرب إلى نفسي بخفة, نشوة تتملك حواسي الخمس و تسيطر عليها بقبضة محكمة تجعلني أكره وقت الاستراحة و أعتبرها دهراً يمر على ببطء غير مرغوب فيه.
صدقاً لا أذكر الفيلم الذي شاهدته في أول لقاء بيني و بين تلك الشاشة العملاقة..ربما لأنها كانت المرة الأولى و الأخيرة التي أذهب فيها لمشاهدة فيلم في سينما بمدينة أسوان. ما أذكره هو فيلم –ناصر 56- للراحل أحمد زكى..أخذنا أبى و شاهدناه في سينما الهرم بالقاهرة و أظننى من يومها اتخذت من السينما مكاناً لي. بل و ولدت بداخلي رغبة في حقيقية في أن أعمل مخرجة ربما لاعتقادي أن على المخرج أن يسافر كثيراً, يجوب المدن بحثاً عن أمكنة تستفز وعيه الفني و خياله اللا منتهى..أماكن تفجر بداخلة طاقة إبداعية هائلة. وكلما كان إحساسه بما شاهده عال, برع في نقل روح المكان من خلال صورته, فتتوغل في نفوس المشاهدين بسهولة دون حتى أن يدركوا.
و رغم أن الحظ لم يحالفني و لم أعمل كمخرجة كما تمنيت, إلا أنني أمارس مهمة البحث عن المكان بنفس المنطق..أبحث عن ما يستفز إحساسي, خيالي, و قلمي. أبحث عنه في "كادر الفيلم", أتخيلني أسكنه..و يسكنني.
حين أذهب للقاء معشوقتي, أجلس على الكرسي في هدوء أضع كيس الفشار بجانبي بينما امسك بعبوة المشروب المثلجة بيدي اليمنى, تلك الطقوس العادية التي يمارسها كل الموجودين بصالة العرض..أما أنا فيتملكني شعوراً بالرهبة و الإثارة, أنتظر بشغف أن أرى ذلك الخيط الشعاعى يتسرب من خلف مقاعدنا و يكسر حالة الظلمة في أرواحنا قبل أن يكسرها في صالة العرض, انظر له و أتسائل- في كل مرة- إن كان هذا الشعاع هو سر السحر الذي يكمن في السينما؟
حين أشاهد فيلماً تسطير بعض المشاهد على مشاعري دون غيرها, ربما لاندماج عنصر المكان الذي يدور فيه الحدث بعنصري الموسيقى و الحوار.
نمر على كورنيش الإسكندرية كثيراً..لكن إحساسي به كان أعمق و ربما أصدق حين رأيته بعيون المخرجة كاملة أبو ذكرى في فيلم "ملك و كتابة" ذلك المشهد الذي جمع دكتور محمود أستاذ التمثيل - محمود حميدة – و هند الممثلة الناشئة - هند صبري-..حميمة المكان المنصهرة تماماً والمتوغلة في حوار شديد الواقعية و التأثير.
حالة الغموض التي انكشفت بدخول سلمى - حنان ترك- منزل "هشام" -عمرو واكد- في فيلم "أحلى الأوقات" للمخرجة هالة خليل أو بمعنى أدق اقتحامها بيته و حياته..ثم قلبه و اكتشافها الدمى التي يصنعها..أنه السر الذي لم يقصد الجار إخفاءه, لكن حالة الحرج التي سيطرت على سلمى حين وجدت صاحب الشقة أمامها و الهدوء الذي تعامل به هشام, كانت من أكثر المشاهد متعة بالنسبة لي.
كلنا نمتلك غرف نعيش فيها, ولكن شعور حسن- أحمد حلمي- بغرفته أختلف كثيراً حين أكتشف حقيقة مرضه في فيلم "أسف على الإزعاج" للمخرج خالد مرعى..الغرفة التي شهدت كتابته رسائل لرئيس الجمهورية ليعرض عليه مشروعه, هي ذاتها التي احتوت انكساره و دموعه. مازالت دراما هذا المشهد العالية, تسيطر على إحساسي كلما مر بذاكرتي, يبعث في نفسي التساؤل..هل يمكن أن نكره يوماً غرفنا التي نتعرى فيها من ملابسنا و نخلع فيها عنا أسرارنا..لا أعتقد, لأنها باختصار تسكن فينا.

السينما..تلك الغرفة المغلقة الساحرة, هي عالمي المجنون و مصدر إلهامي..هي التي حين أخرج منها أكون في قمة إحساسي و تركيزي حتى و إن لم يعجبني الفيلم- و هذا يحدث كثيراً- أكتفي بمتعة ما سمعته من موسيقى و شاهدته من أمكنة ربما لا يكون لها وجوداً على أرض الواقع.




* المقال ضمن ملف "المكان" الذى أعدته الصديقة نهى محمود لمجلة الثقافة الجديدة و نُشر فى عدد يناير 2012



No comments:

Post a Comment

أرحب بجميع الآراء و الملاحظات على مدونتي ^_^

قال تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

نسرين البخشونجى