Pages

17.11.12

فصل من رواية غرف حنين


الغرفة الأولى
        انطلقتْ فجأة، وبسرعةٍ هائلة خارج الغرفة، بعدما وقعت عيناها على جسدها وقد أصبح كقطعة ثلج، ظلَّت تتحرّك في الغرفة بهستيرية... تنظر إلى كل شبرٍ فيها، أصابتها حالة من الخوف الرّهيب... هي تسمع وترى كلّ شيء حتّى جسدها، رأت الملتفِّين حولها.
     كان طريقها طويلًا، نفق أنبوبي مظلم... في آخره تمامًا يكمُن النّور، ذلك الذي يتخلّل لونه الناصع البياض خيوطًا شعاعية ذهبية، ضوء بللّوري لا يشبه أيًّا ممّا رأتهُ في حياتها.
هنا في ذلك المكان الجديد الذي وصلت إليه، يتعارفون دون كلام... دون إشارة، هنا يقرؤون الأفكار.
يا لها من حياةٍ سهلة وصعبة!... "ماذا لو فكّرتُ في شيء أريده أن يبقى سرًّا؟" قالت لنفسها. التقت بأناس تعرفهم جيدًا... تبادلوا التّحية،وسألوها متى انتقلت إلى هذا المكان؟... ما كادت تحكي لهم حتّى فاجأها صوت عميق بأنّ عليها العودة الآن إلى حيث كانت... فهي لا تنتمي لهذا المكان.
لم تستغرب عودتها لغرفتها وحيدة دون رفيق، لقد عاد كلّ شيءٍ كما كان.
  آخر شيء كانت قد أحسّت به قبل أن تصل إلى المستشفى، هو انفجار نبعٍ من السّائل الأحمر السّاخن اللزج... التفَّ حولها عدد من الأطباء والممرضات... الجميع في حالة هلع يحاولون إفاقتها، مشغولين بإيصالها بالأجهزة.
 سمعت أحدهم يقول:" إنّها لا تستجيب"، فأمره آخر:" بأن يحاول إنعاش قلبها من جديد".
"لا بدّ أنّي أحلم..." قالت لنفسها، لكنها انطلقت فجأة لعوالم أخرى.
 لم تكن سرعتها فائقة، لذا بدا على ملامحها الذّهول... صرخت، ثمّ سمحت لسيّارتها بأن تحتضن الشّجرة العتيقة الموجودة على الجانب الأيمن من الطريق.
 فإذا بها تسقط تمامًا على رأسها، ظنًّا منها بأنّ جرعة الحنان ستكون مباشرة وقوية... قال أحد الشهود على الحادثة حنين.
اليوم سيكون هناك شيء مختلف، هو بداية لتغيير تفاصيل حياتي اليوميّة المملّة.
"الحرملك... إذا كنتِ تبحثين عن الجمال، الاستجمام والحرّية نعدك بأكثر من ذلك"
  شعوري بالوحدة لم يخفّفه نزولي اليومي للنّادي لممارسة الرّياضة، أو حتّى المحادثات الليليّة التي اعتدت عليها مع صديقاتي. الملل يلاحقني... حتى بيتي فقد الرّوح، وصار كالبيت المهجور. فكّرت أنّ الخلاص سيتحقّق بلقاء بشر مختلفين، فتعلّمت الكمبيوتر، وبُهِرْت بالانطلاق في فضاء الإنترنت اللّانهائي.
 كانت برامج الدّردشة الصّوتية ومواقعها ملاذي، لكنّي بسنواتي التي تخطّت الأربعين لم أجد من يجاري رغباتي... الغرف مشحونة بالبشر إلى حدّ الانفجار إلّا أنّ معظمهم مراهقون وأطفال، حتّى الكبار منهم طالهم سخف الانحصار في أحاديث جسدية. ازداد شعوري بأنّ شيئًا ما ينقصني.
 خطرت على بالي فكرة المشروع... فاتّخذت قراري ،وأنهيت الإجراءات البيروقراطية السّخيفة، ثمّ أنشأتُ مجموعةً باسم المكان، وحسابًا جديدًا على موقع "الفيس بوك" يحمل اسم "الحرملك".
 قضيت اليوم أشترك في مجموعاتٍ أخرى؛ كي أتمكّن من وضع الرّابط الخاص بمجموعتي بعدما جهّزته بالكثير من "الصور"، و"العنوان"، و"تفاصيل الفكرة". خلال ثلاثة أيام فقط كان عدد المشتركين فيه يقارب المائة عضو، بدأ الجميع في التعبير عن رأيه بالكتابة على حائط المجموعة ما بين مؤيّدٍ ومُعارض، بعضهم رجال لم ترق لهم فكرة أن يكون هناك فندقًا لا يستقبل سِوى النّساء. أمّا بنات حوّاء فلم يخفين إعجابهنّ بالمشروع، وطالبن بتعميمه في أرجاء البلاد ،حتّى يتسنّى لهنّ السّفر بسهولة.
- "ميادة خليل": "من اليوم لن يعترض والدي سفري إلى القاهرة دون رفقة أخي المملّة!... فكرة الحرملك تحفة".
- "أحمد ميدو": "أخشى أن تكون صاحبة المشروع من دعاة الوهّابية ،فمثل هذا المشروع يدل على توجّهاتها!... فهي ضد الاختلاط على ما يبدو!! علينا محاربة هذا المشروع حتّى لا يتوغل كالعنكبوت بمجتمعنا!!!!..."
ثمّ ردّ عدد من أعضاء المجموعة على "أحمد ميدو":
"ندى عادل": "لا أعرف لماذا يقحم البعض الدّين في أمورٍ بعيدة عنه تمامًا؟!... ما المشكلة في أن يكون هناك مكان يستقبل النّساء فقط؟! لماذا لم تنظر لها على أنّ الأمر يتعلق بالعادات والتقاليد، أو بالشّعور بالأمان؟!... أعتقد أنّ الفكرة جيّدة بالفعل."
"ليلى إسحاق": "الفكرة رائعة جدًّا... وأعتقد أنّ "أحمد" لم يكلّف نفسه عناء البحث على الإنترنت... في "روسيا "مثلًا هناك تاكسي للسيّدات فقط... هل تعتقد أنهم وهابيون؟!!!!!"
فردّ "أحمد ميدو" عليهنّ:
"أقطع ذراعي.. إن لم تجدوا هذا المكان أسلوبًا جديدًا لنشر فكر "محمد بن عبد الوهّاب"..عمومًا أنتم أحرار".
كان ما كتبه أحد الأعضاء الجدد فى المجموعة أكثر ما أثار غضبي،حتّى أنّني لم أفكّر في الرّد عليه، واكتفيت بحذف ما كتبه بسرعة قبل أن يقرأه الأعضاء، بل وألغيت عضويّته في المجموعة.
"يوسف إبراهيم": "أريد أن أنبّه الجميع بأنّ هذا المشروع ربّما يكون وكرًا لممارسة "السّحاق"، حيث انتشر مؤخّرًا بصورة كبيرة، ألا تقرأن صفحات الحوادث في الجرائد؟! هذه نصيحتي، فأنا أخشى أن تنخرط بناتنا في هذا الفعل الشّنيع... و"الله" أنا خائف عليكنّ.!!"
قلت في نفسي:"ياله من شخصٍ سافل ووضيع... كيف يتّهمني دون أن يعرفني، فمشروعي معروف والجهات المختصّة على علمٍ به... كيف يجرؤ على اتّهامي هكذا؟ هل صار سوء الظنّ بالأخرين سمة توغلت، واستفحلت في نفوسنا دون أن ندري؟!"
بدأت أتلقى عددًا كبيرًا من طلبات الإضافة، ورسائل تحمل كمًّا هائلًا من الأسئلة، وإن كان معظمها يدور في نفس النّطاق: كم سعر الليلة؟! وكيفية الحجز؟ وأخرى تشجّعني على المشروع من الذين فضّلوا عدم الانخراط في مناقشاتٍ جماعية.
 لم يكن هناك أي قيد للإقامة في "الحرملك" سوى أن تجتمع النزيلات على العشاء كلّ يومٍ إلّا في حالات الضرورة القصوى ،فيمكن التنازل عن هذا الشّرط.
   "الحرملك" فيلا صغيرة في حي "الزّمالك" الرّاقي "بالقاهرة"، بها حديقتان واحدة أمامية وأخرى خلفية، الدّور الأرضي به صالة استقبال كبيرة مقسّمة إلى ثلاثة قطع:
أنتريه حديث بلونٍ أبيض، عليه خداديات متعدّدة الألوان، وإن كانت كلّها تدخل في نطاق الأزرق بدرجاته، بجوار الكرسي الأيمن مِنضدة مستطيلة موضوع عليها ثلاثة بروايز خشبية، واحد فيه صورة "لحنين" وهي ترتدي ثوب العُرْسِ ،يقف خلفها تمامًا عريسها ذو الملامح الهادئة ممسكًا بوسطها، وآخر به صورة لطفلة تشبه "حنين" في ابتسامتها ،وهي تمسك بلعبتها الصّغيرة، وثالث كبير لفتاةٍ مراهقة.
صالون فاخر مصنوع من قماش "الأبويسون الكحلي"، خلفه سفرة كبيرة بلون بني غامق تكفي لاثني عشر فردًا، وغرفة مكتب من جهة اليمين، وعلى الجانب الآخر مطبخ كبير مجهز بكلّ ما هو حديث، وحمّام صغير للضيوف.
في الطابق الأعلى صالة استقبال صغيرة نسبيًّا، بها كرسيان: فوتيه أخضر ومكتبة بها تليفزيون، دش ودي في دي، وأربع غرف نوم وحمّام.
 أردت أن أرى أصنافًا من النّساء وليس بنات طبقة واحدة، لذا قرّرت أن أغيّر وأجدّد في محتويات المكان، فأعددت المكان على هذا الأساس بحيث تكون لكل غرفة من الثلاث سعرًا.
رغم أنّ صديقاتي اتهمنني بالجنون والهبل، وحاولن إبعادي عن تنفيذ الفكرة... لكن هيهات،لن أتراجع أبدًا.
رن جرس الهاتف بعد عدّة أياّم، حين أجبت كانت على الخط سيّدة يبدو من صوتها أنّها شابة، تريد حجز غرفة لمدة أسبوع يبدأ من الغد. في الصّباح انتظرت على أحرّ من الجمر قدوم النّزيلة الأولى التي وصلت في الثّانية عشرة ظهرًا... كم كنت أشعر بالإثارة.
-" أنا سعيدة بكِ جدًّا يا كرمة، أنتِ أول نزيلة عندي لذلك لن أنساك أبدًا، هل تعملين؟ أعتذر عن سؤالي، فبطاقتك تحمل صفة طالبة رغم أنّك مواليد 1981.!"
قالت: "إنّها مشغولة جدًّا حتّى أنّها لم تفكّر في تغيير بطاقتها، وأنّها هنا في مأمورية عمل لمدة أسبوع، حيث تدير الشركة التي ورثتها عن والدها. كانت بشرتها خمرية بجسدٍ ممشوق تمامًا كالتي نقشها الفراعنة على جدران معابدهم.!!
    استأجرت الغرفة الأولى...تلك الغرفة الكبيرة, بها تليفزيون ودش، بالإضافة لإمكانية الاتصال بالإنترنت، ثلّاجة صغيرة وحمّام يشبه في فخامته حمّامات القصور، وسرير كبير يأخذ شكلًا نصف دائري.

2 comments:

أرحب بجميع الآراء و الملاحظات على مدونتي ^_^

قال تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

نسرين البخشونجى