Pages

6.4.09

بُعد إجبارى

كنت أجلس في المقعد الخلفي للسيارة الأجرة التي كانت تسير بي في أحد شوارع وسط البلد، و"حنين" إحدى مقطوعات عمر خيرت الشهيرة تهدهد أحاسيسي, كنت ذاهبة إلى موعد مع صديقات الطفولة. رن جرس الهاتف في وقت لم أتوقع فيه أبدًا اتصالاً من أمي التي كنت قد تركتها منذ بضع دقائق.
سألتنى بصوت يغلفه الرجاء:
- هل بإمكانك أن تعودي حالاً؟
قُلت بنبره لا تُخفي دهشتي و قلقي:
- لماذا؟ هل حدث شيء؟ هل تشعُرين بشيء؟
قالت بلهجة مؤكدة في محاولة لتبديد شعوري بالقلق:
- لا شيء، كنت فقط أريد التحدث معك دون أن يقاطعنا أحد، وأراها فرصتنا الوحيدة في أن نجلس كصديقتين.
أذهلني كلامها، بل وازداد قلقي الذي وصل إلى حد الهلع؛ فأنا قلوقة بطبعي، وحديث أمي يثير في نفسي الشكوك, قُلت لها:
- أمامي ساعة و نصف، هل هذا مناسب؟
- تساءلت: ألا يمكن قبل ذلك؟
قُلت:
- أنا قادمة حالاً, لكن من فضلك أريحيني: هل من مكروه حدث؟ هل تشعرين بتعب؟ هل حدث شيء لأحد من العائلة؟
قالت:
- لا.. و أقسمت بالله العظيم أن كل شيء على ما يرام.
رجوتها أن تعطيني ولو نبذة، ثم سألتها بخُبث ربما يوقعها في خطأ و تعترف:
- هل هو خبر سيء أم سعيد؟
قالت:
- يا ابنتي ...خبر سعيد, لا تقلقي
أغلقت الخط وقد بدأت كل الشكوك تدور في رأسي, لكنى تذكرت فوراً تأكيدها بأن الخبر سعيد, فاحتل بالىي خاطر واحد وفقط, لقد عاد جدي.. حتمًا هذا هو الخبر.
طلبت من السائق على استحياء أن يُغير وجهته لأعود إلى البيت فورًا, وافق الرجل دون أن يبدي انزعاجًا.. ربما لأنه قد سمع حديثي مع أمي. ملت برأسي إلى الوراء وأسندتها على الكرسي الذي أجلس عليه في المقعد الخلفي للسيارة.
اليوم عيد ميلاده, رددتها على نفسي عدة مرات.. أذكر آخر لقاء بيننا, كان يلبس قميصًا أبيض مخططًا باللون الأخضر الغامق وبنطالاً لونه أسود, أنيقًا كعادته, تبدو عليه علامات الصحة والشباب رغم أنه قد احتفل بعيد ميلاده الستين منذ عدة سنوات.
لم يكن لقاؤنا في أي وقت مثار دهشة من أي فرد من أفراد العائلة, فالكل يعلم أن هناك ثمة علاقة خاصة تجمعنا.
ربما لكوني أول حفيدة لهُ.. دلوعته التي رباها وغرس فيها قيمًا كثيرة.. حتى إنها جعلتني أحيانًا أشعر وكأني "أليس في بلاد العجائب"، تلك الشخصية الأسطورية التي تربينا عليها.
كان جدي يعمل مدرسًا للرسم, علمني حب الناس و الصبر. أذكر أنهُ لم يكن ينام أبدًا دون أن يقرأ, ربما لهذا السبب فقط أصبحت الكُتب شغفي الأول.
أورثني العاطفية الشديدة.. فدائمًا ما كانت دموعنا تنزل متأثرين بمشاهد في الأفلام أو المسلسلات. حتى إنه في يوم من الأيام دخلت فيه والدتي علينا ونحن نشاهد آخر حلقة من مسلسل "اليقين"، والدموع شلالات على وجهينا؛ فقالت لنا ساخرة: "أأنتما من عائلة أبي دمعة؟".
عيناه الخضراوان تبدوان في أحيان كثيرة عسليتين, يمتزج فيهما الحنان بالحزم والرقة بالصرامة, لكنه لم يكن يومًا صاحب قلب قاس. كُنت أحيانًا أحب أن أتدلل عليه فأمثل أنني قد نمتُ وأنا أشاهد التلفاز؛ ليحملني إلى السرير.. فأتشبث به وأشعر بنشوة الوصول إلى الهدف.
بدأت الذكريات تجتر بعضها البعض وأنا في طريقي إلى البيت, ربما ساعدتني موسيقى عمر خيرت التي كُنت أشترك مع جدي في ولعنا بها.. لقد كان آخر شيء طلبه منى هو شريط خاص بموسيقى فيلم "البحث عن ديانا".
ظللت أمني نفسي بأجمل خبر سأسمعه, أو ربما بأجمل وجه.. بضمته الحانية التي سأتلقاها بعد بضع دقائق، والتي كنت قد حُرمت منها لسنوات.
في الطريق.. كنت أشعر أن السائق يمشي على شوك, فالوقت يمر ببطء غير معهود و الشوارع مزدحمة بالناس.. والفكرة لا زالت تزلزل مشاعري و تخترق كياني, حتى إنني لم أعط لنفسي فرصة في التأني ولم أعترف لنفسي بأنه مجرد حُلم يقظة... يستحيل أن يتحقق.
وصلت إلى البيت وقد خارت قواي ولم يعد لدي طاقة للحديث, فتحت لي أمي الباب وعلى وجهها علامات لم أفهمها أو ربما لم أهتم بأن أفهمها.. فقد كانت عيناي تبحثان بلهفة عن تلك اللوحة الزيتية المُعلقة على أحد الجدران.. التي تصور جدي الراحل في شبابه.




No comments:

Post a Comment

أرحب بجميع الآراء و الملاحظات على مدونتي ^_^

قال تعالى : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

نسرين البخشونجى